فصل: باب مَا كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب كَيْفَ قَسَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيَر، وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِى نَوَائِبِهِ

فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم النَّخَلاتِ، حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان الرجل يجعل للنبى النخلات‏)‏ والرجل‏:‏ الثلاث، كل واحد على قدر جدته وطيب نفسه، مواساة للنبى ومشاركة له لقوته، وهذا من باب الهدية لا من باب الصدقة؛ لأنها محرمة عليه، أما سائر المهاجرين فكانوا قد نزل كل واحد منهم على رجل من الأنصار فواساه وقاسمه، فكانوا كذلك إلى أن فتح الله الفتوح على الرسول، فرد عليهم ثمارهم، فأول ذلك النضير كانت مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وانجلى عنها أهلها بالرعب فكانت خالصة لرسول الله دون سائر الناس، وأنزل الله فيهم‏:‏ ‏(‏وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ‏(‏ فحبس منها رسول الله لنوائبه وما يعروه، وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة دون الأنصار، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للأنصار‏:‏ إن شئتم قسمت أموال بنى النضير بينكم وبينهم، وأقمتم على مواساتكم فى ثماركم، وإن شئتم أعطيتها المهاجرين دونكم، وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم‏.‏

قالوا‏:‏ بل تعطيهم دوننا ونقيم على مواساتهم، وأعطى رسول الله المهاجرين دونهم فاستغنى القوم جميعًا، استغنى المهاجرون بما أخذوا، واستغنى الأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم‏.‏

وأما قريظة فإنها نقضت العهد بينها وبين النبى، وتحزبت مع الأحزاب، وكانوا كما قال الله فيهم‏:‏ ‏(‏إذ جاءوكم من فوقكم ‏(‏قريظة، ولم يكن بينهم وبين النبى خندق‏)‏ ومن أسفل منكم ‏(‏الأحزاب‏)‏ وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ‏(‏فأنزل الله نصره، وأرسل الريح على الأحزاب فلم تدع بناء إلا قلعته، ولا إناء إلا قلبته، فانصرفوا خائبين كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا‏}‏ الآية‏.‏

فلما انصرف رسول الله من الأحزاب سار إلى قريظة، فحاصرهم، حتى نزلوا على حكم سعد، فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية، فقسمها النبى فى أصحابه، وأعطى من نصيبه فى نوائبه‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وزعموا أن هذه الغنيمة أول غنيمة قسمت على السهام جعل للفرس ولصاحبه ثلاثة أسهم، وللراجل سهم‏.‏

باب بَرَكَةِ الْغَازِى فِى مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَوُلاةِ الأمْرِ

فيه‏:‏ ابْن الزُّبَيْر، لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِى، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا بُنَىِّ، إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّى لا أُرَانِى إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّى لَدَيْنِى أَفَتُرَى يُبْقِى دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا، فَقَالَ‏:‏ يَا بُنَىِّ، بِعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِى، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ- يَعْنِى بَنِى عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ- يَقُولُ‏:‏ ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ‏.‏

قَالَ هِشَامٌ‏:‏ وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِاللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِى الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ فَجَعَلَ يُوصِيى بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ‏:‏ يَا بُنَىِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاىَ، قَالَ‏:‏ فَوَاللَّهِ، مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ‏:‏ يَا أَبَةِ، مَنْ مَوْلاكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ اللَّهُ، قَالَ‏:‏ فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِى كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلا قُلْتُ‏:‏ يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ، اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَتْركْ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِلا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا بِالْكُوفَةِ وَدَارًا بِمِصْرَ، قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِى عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ‏:‏ لا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّى أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، وَمَا وَلِىَ إِمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلا شَيْئًا إِلا أَنْ يَكُونَ فِى غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَعَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ‏:‏ فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَوَجَدْتُهُ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ‏:‏ فَلَقِىَ حَكِيمُ ابْنُ حِزَامٍ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِى، كَمْ عَلَى أَخِى من الدَّيْنِ‏؟‏ فَكَتَمَهُ، وَقَالَ‏:‏ مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ حَكِيمٌ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ‏:‏ مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِينُوا بِى، قَالَ‏:‏ وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُاللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ، فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فَأَتَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ‏:‏ إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ، إِنْ أَخَّرْتُمْ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ قَالَ‏:‏ فَاقْطَعُوا لِى قِطْعَةً، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا، قَالَ‏:‏ فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِىَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ‏:‏ كَمْ قُوِّمَتِ الْغَابَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ‏:‏ كَمْ بَقِيَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ‏:‏ قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ‏:‏ قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ‏:‏ قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ‏:‏ كَمْ بَقِيَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، قَالَ‏:‏ قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ‏:‏ وَبَاعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ‏:‏ اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِىَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ‏:‏ أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا، فَلْنَقْضِهِ، قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ، يُنَادِى بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ‏:‏ فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم‏)‏ معناه والله أعلم أن الصحابة فى قتال بعضهم بعضًا، كل له وجه من الصواب يعذر به عند الله، فلا يسوغ أن يطلق على أحد منهم أنه قصد الخطأ وقاتل على غير تأويل سائغ له، هذا مذهب أهل السنة، فكل واحد منهم مجتهد محق عند نفسه، والقاتل منهم والمقتول فى الجنة إن شاء الله‏.‏

والله يوسع لكل منهم رحمته كما سبقت لهم الحسنى‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله‏:‏ إلا ظالم أو مظلوم‏؟‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ ظالم فى تأويله عند خصمه ومخالفه، ومظلوم عند نفسه إن قتل، وإنما أراد الزبير أن يبين بقوله هذا أن تقاتل الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس ليس كتقاتل أهل البغى والعصبية الذى القاتل والمقتول فيه ظالم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار‏)‏ لأنه لا تأويل لواحد منهم يعذر به عند الله، ولا شبهة له من الحق يتعلق بها، فليس منهم أحد مظلوم بل كلهم ظالم‏.‏

وكان الزبير وطلحة وجماعة من كبار الصحابة خرجوا مع عائشة أم المؤمنين لطلب قتلة عثمان، وإقامة الحد عليهم، ولم يخرجوا لقتال على؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن عليا أحق بالإمامة من جميع أهل زمانه، وكان قتلة عثمان لجئوا إلى على، فرأى على أنه لا ينبغى إسلامهم للقتل على هذا الوجه حتى يسكن حال الأمة، وتجرى المطالب على وجوهها بالبينات وطرق الأحكام؛ إذ علم أنه أحق بالإمامة من جميع الأمة، ورجاء أن ينفذ الأمور على ما أوجب الله عليه، فهذا وجه منع على للمطلوبين بدم عثمان، فكان من قدر الله ما جرى به القلم من تقاتلهم‏.‏

ولذلك قال الزبير لابنه ما قال لما رأى من شدة الأمر وأن الجماعة لا تنفصل إلا عن تقاتل‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏لا أرانى إلا سأقتل مظلومًا‏)‏ لأنه لم يبن على قتال ولا عزم عليه، ولما التقى الزحفان فر، فاتبعه ابن جرموز فقتله فى طريقه فى غير قتال ولا معركة، وقد يمكن الزبير أن يكون سمع قول الرسول‏:‏ ‏(‏بشر قاتل ابن صفية بالنار‏)‏ فلذلك قال‏:‏ ‏(‏لا أرانى إلا سأقتل اليوم مظلومًا‏)‏ والله أعلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وثلثه لبنيه‏)‏ يعنى‏:‏ ثلث الثلث الموصى به لحفدته، وهم بنو ابنه عبد الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فإن فضل فضل بعد قضاء الدين والوصية، فثلثه لولدك‏)‏‏.‏

يعنى‏:‏ ثلث ذلك الفضل الذى أوصى للمساكين من الثلث لبنيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد وازى بعض بنى الزبير‏)‏ يجوز أن يكون وازاهم فى السن، ويجوز أن يكون وازى بنو عبد الله فى أنصبائهم من الوصية أولاد الزبير فيما حصل لهم من ميراث الزبير أبيهم، وهذا الوجه أولى‏.‏

وإلا لم يكن لذكر كثرة أولاد الزبير معنى فى الموازاة فى السن‏.‏

وفيه دليل على دفع تأويل المتشيعة على عائشة ومن تابعها أنها ظالمة؛ لأن الله لا يكون وليا للظالم‏.‏

وأما قول الزبير للذين كانوا يستودعونه ‏(‏لا ولكنه سلف‏)‏ إنما يفعل ذلك خشية أن يضيع المال فيظن به ظن سوء فيه أو تقصير فى حفظه، فيرى أن هذا أبقى لمروءته، وأوثق لأصحاب الأموال؛ لأنه كان صاحب ذمة وافرة، وعقارات كثيرة، فرأى أن يجعل أموال الناس مضمونة عليه، ولا يبقيها تحت شيء من جواز التلف، ولتطيب نفس صاحب الوديعة على ذمته‏.‏

وتطيب نفسه هو على ربح هذا المال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وما ولى إمارة قط ولا جباية خراج‏)‏ فيكثر ماله من هذا الوجه فيكون عليه فيه ظن سوء ومغمز لظن عمر والمسلمين بالعمال، حتى قاسمهم، بل كان كسبه من الجهاد وسهمانه من الغنائم مع رسول الله وخليفتيه بعده، فبارك الله فى ماله لطيب أصله، وربح أرباحًا بلغت ألوف الألوف‏.‏

وقول عبد الله بن الحكيم بن جزام‏:‏ إن دين أبى مائة ألف وكتمه ألفى ألف ومائة ألف، قهذا ليس بكذب، لأنه قصد فى البعض، وكتم بعضًا، وللإنسان إذا شئل عن خبر أن يخبر منه بما شاء، وله أن لا يخبر بشىء منه أصلا‏.‏

وإنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدان الزبير، فيظن بالزبير سوء ظن وقلة حزم، ويظن بعبد الله فاقة إلى معونته، فينظر منه بعين الاحتياج إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا أقسم حتى أنادى أربع سنين‏)‏، فيه‏:‏ أن الوصى له أن يمنع قسمة مال الميت الموصى، حتى ينفذ ديونه ووصاياه إذا كان الثلث يحملها، ولا يقسم ورثة الموصى مالا حتى يؤدى دينه وتستبرأ أمانته‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الوصية للحفدة إذا كان لهم آباء فى الحياة يحجبونهم‏.‏

وفيه‏:‏ أن أجل المفقود والغالب أربع سنين كما قال مالك‏.‏

وفيه‏:‏ أن من وهب هبة ولم يثبلها الموهوب له أنها رد على واهبها، ولواهبها الاستمتاع بها؛ لأن ابن جعفر قال‏:‏ إن شئتم تركتها لكم‏.‏

ولا يلزمه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العائد فى هبته‏)‏ لأنه ليس يعود، وإنما يعود فيها إذا قبلت منه‏.‏

وفيه‏:‏ أن سيد القوم قد يكون قوله وثبوله جائز على من إليه اتباع قومه، كما أن عبد الله لم يقبل الهبة وحده، وقد كان يجب أن يعرف ما عند ورثة أبيه كلهم، فكان قوله فى الرد جائزًا على ورثة أبيه، كما كان قول العرفاء عند سبى هوازن، فى هبة أنصبائهم من السبى جائزًا على من تبعهم‏.‏

وليس هذا من الأمر المحكوم به فى شرف النفوس ومحاسن الأخلاق، ولا سيما فى ذلك الزمان المتقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائة ألف، غلط فى الحساب، والصحيح فجميع ماله سبعة وخمسون ألف ألف وتسعمائة ألف‏.‏

باب إِذَا بَعَثَ الإمَامُ رَسُولا فِي حَاجَةٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ

ابْنِ عُمَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فيمن لم يشهد الوقعة، هل يسهم له‏؟‏ فذهب أبو جنيفة وأصحابه إلى أنه من بعثه الإمام فى حاجة حتى غنم الإمام أنه يسهم له، وكذلك المدد يلحقون أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فيها، وأخذوا بحديث ابن عمر‏.‏

قالوا‏:‏ وقد ذكر أهل السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث سعيد بن زيد فى حاجة له وأمر طلحة بالمقام فى مكان ذكره له وأسهم لهما، وقال لهما‏:‏ ‏(‏لكما أجر من شهد‏)‏‏.‏

وذهب مالك والثورى والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يصل إلا لمن شهد القتال، وبذلك حكم عمر بن الخطاب وكتب به إلى عماله بالكوفة، واتج هؤلاء بحديث أبى هريرة‏:‏ ‏(‏أنه قدم على النبى صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعد ما فتحوها، فقلت‏:‏ أسهم لى‏.‏

فقال بعض بنى سعيد بن العاص‏:‏ لا تسهم له يا رسول الله‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فذكر الحديث‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وحجة أهل المقالة الأولى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن عثمان انطلق فى حاجة الله ورسوله‏)‏ فضرب له بسهم ولم يضرب لأحد غيره‏.‏

قال‏:‏ أفلا ترى أنه لما كان غائبًا فى حاجة الله ورسوله جعله رسول الله كمن حضرها، فكذلك كل من غاب عن وقعة المسلمين بأهل الحرب لشغل شغله به الإمام من أمور المسلمين، فهو كمن حضرها‏.‏

وأما حديث أبى هريرة فوجهه عندنا أن النبى صلى الله عليه وسلم وجه أبانًا إلى نجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر، ثم حدث من خروج النبى إلى خيبر ما حدث، فكان ما غاب فيه أبان من ذلك، ليس هو لشغل شغله النبى عن حضور خيبر بعد إرادته إياها فيكون كمن حضرها، فهذان الحديثان أصلان لكل من أراد الخروج مع الإمام إلى قتال العدو فرده الإمام عن ذلك بأمر آخر من أمور المسلمين، فتشاغل به حتى غنم الإمام، فهو كمن حضر يسهم له، وكل من تشاغل بشغل نفسه أو شغل المسلمين مما كان دخوله فيه متقدمًا، ثم حدث للإمام قتال عدو، فتوجه له، فغنم، فلا حق للرجل فى الغنيمة، وهو ليس كمن حضرها‏.‏

واحتج أهل المقالة الثانية فقالوا‏:‏ إن إعطاء النبى لعثمان وهو لم يحضر بدرًا خصوص له؛ لأن الله تعالى جعل الغنائم لما غنمها والدليل على خصوصه قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان‏:‏ ‏(‏لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه‏)‏ وهذا لا سبيل أن يعلمه غير النبي‏.‏

وذكر الطبرى عن قوم من أهل العلم قالوا‏:‏ إن النبى إنما أعطى عثمان يوم بدر من سهمه صلى الله عليه وسلم من الخمس، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر‏:‏ ‏(‏ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم‏)‏ فدل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعط أحدًا ممن لم يشهد الوقعة من الغنيمة، وإنما أعطاه من نصيبه‏.‏

باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ

مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ الرَّسُول يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالأنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الأنْصَارَ وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ مِنْ تَمْرَ خَيْبَرَ‏.‏

وفيه‏:‏ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ وَإِمَّا الْمَالَ‏)‏، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ انْتَظَرَهم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا‏:‏ فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى أُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ‏)‏، فَقَالَ النَّاسُ‏:‏ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، فِى نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ‏)‏، وَأُتِىَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى‏.‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، بَعَثَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قِسْمِ ‏[‏عَامَّةِ‏]‏ الْجَيْشِ‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، بَلَغَنَا مَخْرَجُ الرسول صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِى، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ‏:‏ فِى بِضْعٍ، أو ثَلاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلا مِنْ قَوْمِى، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِىِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ‏:‏ إِنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ‏:‏ فَأَعْطَانَا مِنْهَا، وَمَا قَسَمَ لأحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا ‏[‏مَعَ‏]‏ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ قَدْ جَاءَنِى مَالُ الْبَحْرَيْنِ، أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا‏)‏، فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الرسول صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، بَيْنَمَا الرسول صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ‏:‏ اعْدِلْ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرض البخارى فى هذا الباب أن يبين أن إعطاء النبى فى نوائب المسلمين إنما هو من الفيء والخمس الذين أمرهما مردود إليه، يقسم ذلك بحسب ما يؤدى إليه اجتهاده‏.‏

ويرد على الشافعى فى قوله‏:‏ إن الخمس مقسوم على خمسة أسهم، وهم الذين سمى الله الخمس لهم إلا سهم النبى؛ فإنه مردود على الأربعة الأسهم الباقية‏.‏

وبيان الحجة عليه أن النبى حين تحلل المسلمين من سبى هوازن، واستطابهم، ووعدهم أن يعوضهم من أول ما يفيء الله عليه إنما أشار إلى الخمس، إذ معلوم أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، فبان أن الخمس لو كان مقسومًا على خمسة أسهم لم يف خمس الخمس بما وعد المسلمين أن يعوضهم من سبى هوازن‏.‏

ذكر أهل السير أن هوازن لما أبت القتال للنبى أتوا بالإبل والنساء والشاء والذرية وجميع أموالهم أفترى خمس الخمس يفى بما وعدهم من العوض من ذلك‏.‏

وذهب البخارى إلى أنه إنما تحلل النبى المسلمين من سباياهم بعد ما كانوا فيئًا، فأطلقهم لما كان نساء بنى سعد ولوا من رضاعه، فراعى فى قبيلهم كله حرمة ذلك، كما روعى فى المرأة صاحبة المزادتين أنه لم يضرب على الحى الذى كانت منه لذمامها فى أخذ الماء منها حتى أسلم جميعهم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد احتج بعض أصحاب مالك بقضية هوازن فى أنه يجوز قرض الجوارى إذا رد غيرها، ومنع من ذلك مالك؛ لأنه عنده من باب عارية الفروج، وذلك حرام‏.‏

وكذلك الإبل التى حمل عليها النبى الأشعريين هى أيضًا من الخمس؛ إذ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين‏.‏

وحديث ابن عمر فيه أيضًا حجة واضحة أن النفل من الخمس كما قال مالك؛ لأنه إنما نفلهم بعيرًا بعيرًا بعد قسمة السهمان بينهم من غير ما وجبت فيه سهمانهم، وهو الخمس‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وذهب قوم إلى أنه ليس للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، فأما من غير الخمس فلا؛ لأنه قد ملكته المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ روى هذا القول عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى ذكره أبو عبيد عن مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقال أبو عبيد‏:‏ الناس اليوم على هذا، لا نفل من جملة الغنيمة حتى يخمس‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وخالفهم آخرون فقالوا‏:‏ للإمام أن ينفل من الغنيمة ما أحب بعد إحرازه إياها قبل أن يقسمها، كما كان له قبل ذلك‏.‏

وذكر ابن المنذر أن هذا قول القاسم بن عبد الرحمن، وفقهاء أهل الشام قالوا‏:‏ الخمس من جملة الغنيمة، والنفل بعده، ثم الغنيمة بعد ذلك بين أهل العسكر‏.‏

وهو قول الأوزاعى وأحمد وإسحاق‏.‏

وحجة هذا المقالة‏:‏ حديث سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة ‏(‏أن رسول الله نفل فى بدأته الربع قبل الخمس‏)‏ فكذلك الثلث الذى ينفله فى الرجعة هو الثلث أيضًا قبل الخمس، و إلا لم يكن لذكر الثلث معنى‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فيقال لهم‏:‏ بل له معنى صحيح، وذلك أن المذكور من نفله فى البدأة الربع، هو مما يجوز له النفل منه، وكذلك نفله فى الرجعة الثلث مما يجوز له النفل منه وهو الخمس‏.‏

وروى حديث حبيب بلفظ يدل على هذا المعنى‏.‏

روى مكحول عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله كان ينفل الثلث بعد الخمس‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتجوا أيضًا بما رواه سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبى سلام، عن أبى أمامة الباهلى، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ كان رسول الله ينفلهم إذا خرجوا بادئين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث‏.‏

قيل لهم‏:‏ وهذا لا حجة فيه؛ لأنه محتمل أن يكون معناه‏:‏ ينفلهم إذا قفلوا الثلث، فيكون ذلك على قفول من قتال إلى قتال، فيكون الثلث المنفل هو الثلث قبل الخمس، وذلك جائز عندنا؛ لأنه يرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوهم‏.‏

فأما إذا كان القتال قد ارتفع فلا يجوز النفل؛ لأنه لامنفعة للمسلمين فى ذلك‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ النفل فى قوله الذى ذكره ابن عمر ‏(‏ونفلوا بعيرًا بعيرًا‏)‏ بعد ذكر السهام‏.‏

ولا وجه له إلا أن يكون من الخمس وقد جاء مبينًا فى حديث مكحول‏:‏ أن النبى نفل يوم حنين من الخمس‏.‏

وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال‏:‏ بلغنى عن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ نفل رسول الله سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلا سوى نصيبهم من المغنم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين حين أخذ وبرة من جنب بعيره ثم قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إنه لا يحل لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم‏)‏‏.‏

يدل أن ما سوى الخمس من المغنم للمقاتلة‏.‏

ويدل على صحة ما قلنا ما رواه أبو عوانة، عن عاصم بن كليب، عن أبى الجويرية، عن معن بن يزيد السلمى قال‏:‏ سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏(‏لا نفل إلا بعد الخمس‏)‏ أى‏:‏ حتى يقسم الخمس‏.‏

وإذا قسم الخمس انفرد حق المقاتلة وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النفل الذى ينفله الإمام من بعد أن آثر به هو من الخمس لا من الأربعة الأخماس التى هى حق المقاتلة، ولو أخذنا النفل قبل ذلك لكان حقهم قد بطل بعد وجوبه، وإنما يجوز النفل مما يدخل فى ملك المنفل من ذلك العدو‏.‏

فأما ما قد زال عن ملك العدو قبل ذلك وصار فى ملك المسلمين فلا نفل فيه؛ لأنه من مال المسلمين، فثبت بذلك ألا نفل بعد إحراز الغنيمة‏.‏

ومما احتج به أصحاب مالك قالوا‏:‏ إنما لم يجعل مالك النفل من رأس الغنيمة؛ لأن أهلها معينون، وهم الموجفون، وجعله من الخمس؛ لأن قسمته مردودة إلى اجتهاد الإمام وأهله غير معينين‏.‏

وفى حديث ابن عمر رد لقول من قال‏:‏ إن النفل من خمس الخمس، وإنما فى الحديث أنه نفل نصف السدس؛ لأنه بلغت سهمانهم اثنا عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا‏.‏

واما حديث أبى موسى وأهل السفينة، فإن للعلماء فى معناه تأويلات‏:‏ أحدها ما ذكر موسى بن عقبة، قال إن النبى صلى الله عليه وسلم استطاب أنفس الغانمين بما أعطاهم كما فعل فى سبى هوازن، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، روى خثيم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه فوجدوا النبى قد خرج إلى خيبر‏.‏

قال‏:‏ فقدمنا عليه وهو قد فتح خيبر، فكلم الناس، فأشركنا فى سهامهم‏.‏

وقيل‏:‏ إنما أعطاهم من خيبر ما لم يفتتح بقتال مما قد انجلى عنه أهله بالرعب فصار فيئًا؛ لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وبعض خيبر كانت هكذا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما أعطى من خيبر لأهل الحديبية خاصة، رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال‏:‏ ما شهدت مغنمًا مع رسول الله إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرى لم تقدروا عليه ‏(‏بعد قوله‏:‏ ‏(‏وعدكم الله مغانم كثيرة‏}‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما أعطاهم من خيبر من الخمس الذى حكمه حكم الفيء، وله أن يضعه باجتهاده حيث شاء، ويمكن أن يذهب البخارى إلى هذا القول، والله أعلم‏.‏

وحديث جابر يحتمل أن يكون من الخمس أو من الفيء وكذلك حديث جابر، إذ قال الرجل للنبى‏:‏ اعدل، يحتمل أن يكون من الخمس؛ لأنه إنما أنكر الأعرابى الجاهل ما رأى من التفضيل، وذلك لا يكون فى أربعة أخماس الغنيمة، وإنما يكون فى الخمس الذى هو موكول إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ هذا مما لا يعلم أنه من الخمس، وقد قسمه رسول الله بغير وزن،، حدثنا بذلك ابن أبى أويس، حدثنا أبى، حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول‏:‏ بصر عينى وسمع أذنى رسول الله بالجعرانة وفى ثوب بلال فضة يقبضها للناس يعطيهم فقال له رجل‏:‏ اعدل الحديث‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ فعل الرسول فى سبى هوازن يدل أن الغنائم على حكم الإمام إن رأى أن يصرفها إلى ما هو أوكد وأعظم مصلحة للمسلمين من قسمتها على الغانمين صرفها ولم يعط الغانمين شيئًا، كما فعل بمكة فتحها عنوة ومَنَّ عليهم، ولم يعط أصحابه منها شيئًا، بل أبقاها للرحم التى كانت بينه وبينهم، وكذلك أراد أن يفعل بهوازن للرضاعة فيهم حين استأنى بالغنائم، فلما أبطئوا قسم، ثم لما جاءوا رد بعضًا وأبقى للغانمين بعضًا عن طيب أنفسهم، ولم يستطب أنفسهم بمكة؛ لأنه لم يملكهم، واستطاب أنفسهم بهوازن؛ لأنه قد كان قسم لهم وملكهم، فصح بهذا أنه لا شيء لهم إلا أن يملكوا، ولذلك قال مالك‏:‏ يحد الزانى، ويقطع السارق وإن كان له فى الغنيمة سهم، إذا فعل ذلك قبل القسمة، فلو كان له فيها شبهة لدرأ الحد بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ادرءوا الحدود بالشبهات‏)‏‏.‏

فدل أنه لا شبهة لهم فيها إلا أن يملكوها بالقسمة‏.‏

وحكى الطبرى هذه المقالة عن بعض أهل العلم قالوا‏:‏ حكم المغانم كلها لرسول الله فى مغازيه كلها، وله أن يصرفها إلى من شاء، ويحرمها على من حضر القتال، ومن لم يحضر، واعتلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول ‏(‏وبفعله صلى الله عليه وسلم فى هوازن، ولم يسم القائلين بذلك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أربعة أخماس الغنيمة حق للغانمين لا شيء فيه للإمام، وإنما هو صلى الله عليه وسلم كبعض من حضر الوقعة إلا ما كان خصه الله به من الفيء وخمس الخمس، وأما غير ذلك فلم يكن له فيه شيء‏.‏

قالوا‏:‏ والذى أعطى صلى الله عليه وسلم يوم حنين المؤلفة قلوبهم إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول ‏(‏معناه‏:‏ له وضعها مواضعها التى أمره الله بوضعها فيها، لا أنه ملكها ليعمل فيها ما شاء‏.‏

قالوا‏:‏ وكيف يجوز أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏(‏والرسول ‏(‏ملكًا له، وهو صلى الله عليه وسلم يعزل يوم صدر من حنين، فتناول وبرة من الأرض وقال‏:‏ ‏(‏ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فتبين بهذا الحديث أن ما أعطى النبى المؤلفة ومن لم يشهد الوقعة إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة خاصة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ مكة لا تشبه شيئًا من البلاد؛ وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم سن بمكة سننًا لم يسنها فى سائر البلاد‏.‏

روى عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، ألا تبنى لك بيتًا يظلك من الشمس بمكة‏؟‏ قال‏:‏ لا، إنما هى مناخ من سبق‏)‏ رواه عن ابن مهدى، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة، وقال عبد الله بن عمرو‏:‏ من أكل من أجور بيوت مكة، فإنما يأكل فى بطنه نار جهنم‏.‏

وكره أهل العلم كراء بيوتها‏.‏

وقال ابن عباس وابن عمر‏:‏ الحرم كله مسجد‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤخذ أجور بيوتها، ولا تحل ضالتها إلا لمنشد‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ فإذا كان حكم مكة أنها مناخ لمن سبق، وأنها مسجد لجماعة المسلمين، ولا تباع رباعها، ولا يطيب كراء بيوتها، فكيف يقاس غيرها عليها‏.‏

باب‏:‏ المَنِّ عَلَى الأَسَارَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسُوا

فيه‏:‏ جُبَيْر، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ‏:‏ ‏(‏لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِىٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِى فِى هَؤُلاءِ السبى لَتَرَكْتُهُمْ‏)‏‏.‏

هذا الحديث حجة فى جواز المن على الأسارى، وإطلاقهم بغير فداء، خلاف قول بعض التابعين؛ لأن النبى لا يجوز فى صفته أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه جواز التشفيع للمذنبين الشريف على سبيل الاستئلاف، والانتفاع بإشفاعه فى رد عادته المشركين بأكثر ما يخشى من ضد المطلقين لطاعتهم لسيدهم المشفع بهم، وهو نظر من الرسول، وأن الانتفاع بالمن عليهم أكثر من قتلهم أو استرقاقهم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقوله باب‏:‏ ‏(‏المن على الأسارى من غير أن يخمسوا‏)‏ فيه حجة لما ذكره ابن القصار عن مالك وأبى حنيفة أن الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة إلا بعد قسمة الإمام لها‏.‏

وحكى عن الشافعى أنهم يملكون بنفس الغنيمة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والحجة للقول الأول هذا الحديث، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لو من على الأسارى سقط سهم من له الخمس كما سقط سهم الغانمين‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لتركتهم به‏)‏ يقضى ترك جميعهم لا ترك بعضهم‏.‏

واحتج ابن القصار فقال‏:‏ لو ملكوا بنفس الغنيمة لكان من له أب أو ولد ممن يعتق عليه إذا ملكه يجب أن يعتق عليه بنفس الغنيمة، ويحاسب به من سهمه، وكان يجب لو تأخرت القسمة فى العين والورق ثم قسمت أن يكون حول الزكاة على الغانمين يوم غنموا‏.‏

وفى اتفاقهم أنه لا يعتق عليهم من يلزمهم عتقه إلا بعد القسمة، ولا يكون حول الزكاة إلا من يوم حاز نصيبه بالقسمة أنه لا يملك بنفس الغنيمة، ولو ملك بنفس الغنيمة لم يجب عليه الحد إذا وطىء جارية من المغنم قبل القسمة‏.‏

واحتج أصحاب الشافعى فقالوا‏:‏ لو ترك السبى لمطعم بن عدى كان يستطيب أنفس أصحابه الغانمين، كما فعل فى سبى هوازن؛ لأن الله أوجب لهم ملك الغنائم إذا غنموها بقوله‏:‏ ‏(‏واعلموا أنما غنمتم من شىء ‏(‏فأضافهم إليهم‏.‏

وأما قولهم‏:‏ لو ملكوا بنفس الغنيمة، فكان من له أب أو ولد يعتق بنفس الغنيمة، ولا حجة فيه؛ لأن السنة إنما وردت فيمن أعتق شقصًا له فى عبد معين قد ملكه وعرفه بعينه، فأما ما لا يعرف بعينه فلا يشبه عتق الشريك‏.‏

ألا ترى أن الشريك له أن يعتق كما يعتق صاحبه، وفى إجماعهم أنه يعتق على الشريك الموسر فى المعتق، وإجماعهم أنه لا يعتق عليه فى شركته فى الغنيمة دليل واضح على الفرق بينهما‏.‏

وأما قوله أنه يجب أن يكون حول الزكاة من وقت الغنيمة لو كان ملكًا فخطأ بين على مذهب المالكيين وغيرهم؛ لأن العوائد لا يراعى حولها عندهم إلا من يوم يصير بيد صاحبه، وأما اعتلالهم بوجوب الحد على من وطىء من المغنم قبل القسمة فلا معنى له؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا خلاف بين العلماء أنه لو وطىء جارية معينة بينه وبين غيره لم يحد، فكيف ما لا يتعين‏؟‏ باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلإمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِى بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ مَا قَسَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِى الْمُطَّلِبِ وَبَنِى هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ

قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ‏:‏ لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِى أَعْطَى لِمَا يَشْكُو إِلَيْهِ مِنَ الْحَاجَةِ وَلِمَا مَسَّهُمْ فِى جَنْبِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ‏.‏

فيه‏:‏ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِى الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَىْءٌ وَاحِدٌ‏)‏‏.‏

قال الخطابِىّ‏:‏ شىء أى مثل‏.‏

قَالَ جُبَيْرٌ‏:‏ وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِى عَبْدِ شَمْسٍ وَلا لِبَنِى نَوْفَلٍ‏.‏

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لأمٍّ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ، وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لأبِيهِمْ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الباب رد لقول الشافعى أيضًا أن سهم ذى القربى خمس الخمس يقسم بينهم لا يفضل فقير على غني‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وليس فى هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم قسم بينهم خمس الخمس، وقد يجوز أن يقسم بينهم أكثر وأقل؛ لأنه لم يخص فى الحديث مبلغ سهمهم كم هو، وإنما قصد فى الحديث الفرق بين بنى هاشم وبنى المطلب، وبين سائر بنى عبد مناف‏.‏

وهذا الحديث يرد قول ابن عباس حين كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذى القربى ومن هم‏؟‏ قال‏:‏ هم قرابة الرسول، ولكن أبى علينا قومنا فصبرنا، ألا ترى أن ابن عباس لم يظلم من أبى ذلك عليه، فدل أن ما أريد به مع ذلك بقرابة رسول الله بعضهم دون بعض، وجعل الرأى فى ذلك إلى رسول الله يضعه فيمن شاء منهم، وهم أهل الفقر والحاجة خاصة، وكذلك قال عمر بن الخطاب‏:‏ إنما جعل الخمس لأصناف سماهم، فأسعدهم فيه حظا أشدهم فاقة وأكثرهم عددًا‏.‏

وذكر الطحاوى بإسناذه عن الحسن بن محمد بن على قال‏:‏ اختلف الناس بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم فى سهم ذى القربى، فقال قوم‏:‏ هو لقرابة الخليفة، وقال قوم‏:‏ سهم النبى صلى الله عليه وسلم هو للخليفة من بعده ثم أجمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل فى سبيل الله، فكان ذلك إمارة أبى بكر وعمر‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ أفلا ترى أن ذلك مما قد أجمع عليه الصحابة، ولو كان ذلك لقرابة رسول الله لما منعوا منه، ولما صرف إلى غيرهم، ولا خفى ذلك عن الحسن بن محمد مع علمه وتقدمه‏.‏

وهذا يرد قول من زعم أن لذى القربى سهمًا مفروضًا من الخمس، وقد تقدم هذا المعنى فى باب ‏(‏درع النبى وعصاه وسيفه‏)‏‏.‏

وزعم الشافعى أنه يعطى الرجل من ذوى القربى سهمين والمرأة سهمًا‏.‏

وخالفه أصحابه‏:‏ المزنى، وأبو ثور، وجميع الناس وقالوا‏:‏ الذكر والأنثى فى ذلك سواء‏.‏

وهذا هو الصحيح؛ لأنهم إنما أعطوا بالقرابة، وذلك لا يوجب التفضيل، كما لو أوصى الرجل لقرابته بوصية، لم يعط الذكر مثل حظ الأثنيين؛ لأنهم إنما أعطوا باللفظ الذى أوجب لهم ذلك، فأما المواريث فإن الله تعالى قسمها بين أهلها على أمور مختلفة، جعل للوالدين فى حال شيئًا وفى حال غيره والأولاد إذا كانوا ذكورًا وإناثًا شيئًا، وإذا كن إناثًا غير ذلك، وكذلك الإخوة والأخوات‏.‏

وهذا الحديث حجة للشافعى أن ذا القربى الذى يسهم لهم من الخمس هم بنو هاشم وبنو المطلب أخى هاشم خاصة دون سائر قرابته صلى الله عليه وسلم، وبه قال أبو ثور، وقال ابن الحنفية‏:‏ سهم ذى القربى هو لنا أهل البيت‏.‏

وروى عمر بن عبد العزيز أنهم بنو هاشم خاصة‏.‏

وقال أصبغ بن الفرج‏:‏ اختلف فى ذلك، فقيل‏:‏ هم قرابة الرسول، وقيل‏:‏ قريش كلها‏.‏

قال‏:‏ ووجدت معانى الآثار أنهم آل محمد‏.‏

وقد تقدم فى كتاب الزكاة اختلافهم فى آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة‏.‏

باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأسْلابَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ الخَمِّسَ وَحُكْمِ الإمَامِ فِيهِ

فيه‏:‏ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِى الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِى وَعَنْ شِمَالِى، فَإِذَا أَنَا بِغُلامَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِى أَحَدُهُمَا، فَقَالَ‏:‏ يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ، يَا ابْنَ أَخِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوَادِى سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِى الآخَرُ، فَقَالَ لِى مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِى النَّاسِ، فَقُلْتُ‏:‏ أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِى سَأَلْتُمَانِى عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّكُمَا قَتَلَهُ‏؟‏ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا‏:‏ أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا‏؟‏ قَالا‏:‏ لا، فَنَظَرَ فِى السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ كِلاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلا رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَىَّ فَضَمَّنِى ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِى، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا بَالُ النَّاسِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ قَتَلَ قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ‏)‏، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ‏:‏ مَنْ يَشْهَدُ لِى، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهَا، فَقُمْتُ، ‏[‏فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ‏)‏‏؟‏ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ‏]‏ فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُهُ عِنْدِى، فَأَرْضِهِ عَنِّى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ‏:‏ لاهَا اللَّهِ، إِذًا لا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، يُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَدَقَ‏)‏، فَأَعْطَاهُ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ، وَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِى الإسْلامِ‏.‏

ووقع هذا الحديث فى غزوة حنين من حديث الليث، عن يحيى بن سعيد ‏(‏كلا لا نعطيه أضيبع من قريش، وندع أسدًا من أسد الله‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

اختلف الفقهاء فى السلب، هل يخمس‏؟‏ فقال الشافعى‏:‏ كل شيء من الغنيمة يخمس إلا السلب؛ فإنه لا يخمس‏.‏

وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث‏.‏

وذكر ابن خواز بنداذ عن مالك أن الإمام مخير فيه، إن شاء خمسه على الاجتهاد كما فعل عمر فى سلب البراء بن مالك، وإن شاء لم يخمسه، واختاره إسماعيل ابن إسحاق، وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ إذا كثرت الأسلاب، خمست كما فعل عمر بن الخطاب‏.‏

وقال مكحول والثورى‏:‏ السلب مغنم ويخمس‏.‏

وفى مختصر الوقار، عن مالك أنه يخمس السلب‏.‏

وهو قول ابن عباس، روى الزهرى، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس قال‏:‏ السلب من النفل والنفل يخمس‏.‏

وحجة من رأى تخميسها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏ ولم يستثن سلبًا ولا غيره، وحجة من قال‏:‏ لا يخمس حديث معاذ بن عمرو، وحديث أبى قتادة، وليس فى واحد منهما تخميس الأسلاب‏.‏

وعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا فله سلبه‏)‏ فملكه السلب ولم يستثن شيئًا منه‏.‏

وإلى هذا ذهب البخاري‏.‏

وحجة من رأى تخميسها على الاجتهاد إذا كثرت ما رواه سفيان عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك ‏(‏أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزاره فقتله، فقوم سلبه ثلاثين ألفًا، فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر بن الخطاب فقال لأبى طلحة‏:‏ إنا كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلب البراء بلغ مالا، ولا أرانا خامسه، فقومنا ثلاثين ألفًا فدفعنا إلى عمر ستة آلاف، فكان أول سلب خمس فى الإسلام‏)‏ فدل فعل عمر أن لهم أن يخمسوا إّذا رأى الإمام ذلك‏.‏

واختلف العلماء فى حكم السلب، فقال مالك‏:‏ لا يستحق القاتل سلب قتيله إلا أن يرى ذلك الإمام بحضرة القتال فينادى ليحرض الناس على القتال، أو يجعله مخصوصًا لإنسان إذا كان جهده‏.‏

وبه قال أبو حنيفة والثوري‏.‏

واحتج مالك بأن رسول الله إنما قال‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا فله سلبه‏)‏ بعد أن برد القتال يوم حنين ولم يحفظ ذلك عنه فى غير يوم حنين، ولا بلغنى ذلك عن الخليفتين‏.‏

فليس السلب للقاتل إلا أن يقول ذلك الإمام، وإلا فالسلب غنيمة، وحكمه حكم الغنائم؛ لأن الأربعة الأخماس للغانمين والنفل زيادة على الواجب، فلا تكون تلك الزيادة من الواجب بل من غيره وهو الخمس‏.‏

وقال الأوزاعى والليث والشافعى وأبو ثور‏:‏ السلب للقاتل على كل حال سواء قال ذلك الإمام أو لم يقله؛ لأنها قضية قضاها رسول الله فى مواطن شتى لا يحتاج إلى إذن الإمام فيها‏.‏

وقد أعطى رسول الله سلب أبى جهل يوم بدر لمعاذ بن عمرو، فثبت أن ذلك كان قبل يوم حنين، خلاف قول مالك‏.‏

واحتج أصحاب الشافعى بحديث معاذ بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أعطاه السلب؛ لأنه كان أثخنه ومعاذ بن عفراء أجهز عليه‏.‏

قالوا‏:‏ وعندنا أنه إذا أثخن أحدهم المشرك بالضرب وذبحه الآخر، كان السلب للمثخن لا للذابح‏.‏

قال المهلب‏:‏ ونظره صلى الله عليه وسلم إلى سيفيهما واستدلاله منهما على أيهما قتله، دليل أنه لم يعط السلب إلا لمن أثخنه، وله مزية فى قتله، وموضع الاستدلال منه أنه رأى فى سيفيهما مبلغ الدم من جانبى السيفين، ومقدار عمق دخولهما فى جسم أبى جهل، ولذلك سألهما هل مسحاهما؛ لأنه لو مسحاهما لتغير مقدار ولوجهما فى جسمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كلاكما قتله‏)‏ فلو كان السلب مستحقًا بالقتل لكان يجعله بينهما؛ لأنهما اشتركا فى قتله، ولا ينتزعه من أحدهما‏.‏

فلما قال لهما‏:‏ ‏(‏كلاكما قتله‏)‏ ثم قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر، دل ذلك على ما قلنا؛ ألا ترى أن الإمام لو قال‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا فله سلبه‏)‏ فقتل رجلان قتيلا أن سلبه بينهما نصفين وأنه ليس للإمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه للآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثلما لصاحبه، وهما أولى به من الإمام، فلما كان للنبى فى سلب أبى جهل أن يجعله لأحد قاتليه دل أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن قال يومئذ‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا فله سلبه‏)‏ قاله الطحاوي‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ لما خص به صلى الله عليه وسلم أحدهما علم أنه غير مستحق إلا بعطية الإمام؛ لأن عطاء الإمام عندنا من الخمس، فيكون معنى قوله‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا فله سلبه‏)‏ يعنى‏:‏ من الخمس لا من مال الغانمين‏.‏

واحتج أصحاب الشافعى فقالوا‏:‏ إنما أعطى السلب لأحدهما وإن كان قال‏:‏ ‏(‏كلاكما قتله‏)‏ لأنه استطاب نفس صاحبه، ولم ينقل ذلك، ويشهد لصحة هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل السلب للقاتل يوم بدر وغيره، روى ذلك من حديث عبد الرحمن بن عوف، وحديث عوف بن مالك، وحديث أبى قتادة، وحديث ابن عباس، قالوا‏:‏ لأنه محال أن يقول‏:‏ ‏(‏كلاكما قتله‏)‏ ويقول‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا فله سلبه‏)‏ ثم يعطى أحدهما إلا عن إذن صاحبه، كما فعل فى غنائم هوازن‏.‏

وبهذا التأويل تسلم الحاديث من التعارض والاختلاف‏.‏

قالوا‏:‏ وحديث أبى قتادة، يدل أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس؛ لأن الرسول أعطى أبا قتادة سلب قتيله قبل قسمة الغنيمة لأنه نفله حين برد القتال، ولم يقسم الغنيمة إلا بعد أيام كثيرة بالجعرانة‏.‏

فأجابهم أصحاب مالك والكوفيون، فقالوا‏:‏ هذا حجة لنا؛ وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك فى حديث أبى قتادة بعد تقضى الحرب وقد حيزت الغنائم وهذه حالة قد سبق فيها مقدار حق الغانمين وهو الأربعة الأخماس على ما فرضها الله لهم؛ فينبغى أن يكون من الخمس، وإذا تقرر أنه صلى الله عليه ابتدأ فأعطى القاتل السلب بعد أن قال‏:‏ ‏(‏ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود فيكم‏)‏ علم أن عطية ذلك وغيره من الخمس المضاف إليه، ولا يكون الخمس إلا بعد حصول الأربعة الأخماس للغانمين‏.‏

وما رأى الإمام أن يعطيه من أبلى واجتهد فى نكاية العدو، فهو ابتداء عطية منه؛ فينبغى ألا يكون من حق الغانمين، وأن يكون مما إليه صرفه على وجه الاجتهاد وهو الخمس، كما ينفل من الخمس، لا من حقوق الغانمين‏.‏

واختلفوا فى الرجل يدعى أنه قتل رجلا بعينه، ويدعى سلبه، فقالت طائفة‏:‏ يكلف على ذلك البينة، فإن جاء بشاهدين أخذه، وإن جاء بشاهد واحد حلف معه وكان له سلبه، واحتجوا بحديث أبى قتادة وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين، وهو قول الليث والشافعى، وجماعة من أهل الحديث‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ يعطاه إذا قال إنه قتله ولا يسأل على ذلك بينة‏.‏

وقال ابن القصار وغيره‏:‏ إن النبى شرط البينة، وأعطى أبا قتادة سلبه على بينة، وذلك بشهادة رجل واحد دون يمين؛ فعلم أنه لم يعطه لأنه استحقه بالقتل لأن المغانم له أن يعطى منها مما يبقى لمن شاء، ويمنع من شاء؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏}‏ الآية والمغانم خلاف الحقوق التى لا تستحق إلا بإقرار أو شاهدين‏.‏

وقال أصحاب الشافعى‏:‏ إن النبى لم يعطه أبا قتادة إلا ببينة؛ لأنه أقر له به من كان حازه لنفسه فى القتال، فصدق أبا قتادة، وقال أبو بكر الصديق ما قال، وأضاف السلب إليه؛ فحصل شاهدان له‏.‏

وأيضًا فإن كل من فى يده شيء فإقراره به لغيره يقوم مقام البينة‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث أبى قتادة من الفقه جواز كلام الوزير ورد سائر الأمر قبل أن يعلم جواب الأمير، كما فعل أبو بكر حين قال‏:‏ لا ها الله، وقال ثابت فى ‏(‏غريب الحديث‏)‏‏:‏ قال أبو عثمان المازنى‏:‏ من قال‏:‏ ‏(‏لا ها الله إذا‏)‏ فقد أحطأ، إنما هو‏:‏ لا ها الله ذا‏.‏

أى‏:‏ ذا يمينى وذا قسمي‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ يقال‏:‏ ‏(‏لا ها الله ذا‏)‏، و ‏(‏ذا‏)‏ صلة فى الكلام وليس من كلامهم‏:‏ لا ها الله إذا‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو مثل قول زهير‏:‏ تعلمتها لعمر الله ذا قسمًا وقوله‏:‏ فابتعت به مخرفًا‏.‏

قال أبو حنيفة اللغوى‏:‏ إذا اشترى الرجل نخلتين وثلاثًا إلى العشر يأكلهن قيل‏:‏ قد اشترى مخرفًا جيدًا، والخرائف للنخل التى يخترفن، واحدها خروفة وخريفة والمخرف بكسر الميم- الزنبيل الذى يخترف فيه، والخارف اللاقط والحافظ للنخل‏.‏

وقوله فى حديث عبد الرحمن بن عوف‏:‏ ‏(‏تمنيت أن أكون بين أصلح منهما‏)‏ هكذا رواه مسدد، عن يوسف بن الماجشون، ورواه إبراهيم بن حمزة الزبيرى، وموسى بن إسماعيل، وعفان عن يوسف بن الماجشون ‏(‏تمنيت أن أكون بين أضلع منهما‏)‏ وهو أشبه بالمعنى‏.‏

ورواية ثلاثة حفاظ أولى من رواية واحد خالفهم‏.‏

وأماحديث إبراهيم بن حمزة فرواه الطحاوى عن أبى داود عنه‏.‏

وحديث موسى بن إسماعيل رواه ابن سنجر عنه، وحديث عفان رواه ابن أبى شيبة عنه‏.‏

وأما رواية الليث فى حديث أبى قتادة ‏(‏كلا لا نعطيه أضيبع من قريش‏)‏ فيمكن أن يكون معناها والله أعلم- ما ذكره الخطابى أن عتبة بن ربيعة نهى يوم بدر عن القتال وقال‏:‏ يا قوم اعصبوها برأسى وقولوا‏:‏ جبن عتبة، وقد تعلمون أنى لست بأجبنكم‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ الله لو غيرك قالها لأعضضته، قد ملىء جوفه رعبًا‏.‏

فقال عتبه‏:‏ أولى تعنى يا مصفر استه، ستعلم أينا اليوم أجبن‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فى حديث طويل‏.‏

قال الخطابى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏يا مصفر استه‏)‏ قيل‏:‏ إنه نسبه إلى التوضيع والتأنيث، وقيل‏:‏ إنه لم يرد به ذلك، وإنما هى كلمة تقال للرجل المترف الذى يؤثر الراحة ويميل إلى التنعيم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال لى بعض أهل اللغة‏:‏ إنما سمى أضيبع؛ لأنه كان له شامة يصبغها‏.‏

باب مَا كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ

رَوَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

فيه‏:‏ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ لِى‏:‏ ‏(‏يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى‏)‏‏.‏

قَالَ حَكِيمٌ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا، حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، يَدْعُو حَكِيمًا، لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، فَقَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ‏.‏

فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّىَ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَىَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِىَ بِهِ، وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَوَضَعَهُمَا فِى بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، قَالَ‏:‏ فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِى السِّكَكِ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا عَبْدَاللَّهِ، انْظُرْ مَا هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَ‏:‏ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّبْىِ، قَالَ‏:‏ اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ‏.‏

وَزَادَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ مِنَ الْخُمُسِ‏.‏

وفيه‏:‏ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، أَعْطَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى أُعْطِى قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِى نُفُوسِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ‏)‏، فَقَالَ عَمْرُو‏:‏ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّى أُعْطِى قُرَيْشًا أَتَأَلَّفُهُمْ؛ لأنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَسُ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ قَالُوا لِلْنَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ‏:‏ مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِى رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإبِلِ، فَقَالُوا‏:‏ يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَحُدِّثَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا، جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكُمْ‏)‏‏؟‏ فَقَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ‏:‏ أَمَّا ذَوُو آَرَأَيَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَتْرُكُ الأنْصَارَ وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّى أُعْطِى رِجَالا حَدِيثِى عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأمْوَالِ، وَتَرْجِعُون إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ‏)‏، قَالُوا‏:‏ بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَوْضِ‏)‏‏.‏

قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَلَمْ يَصْبِرْوا‏.‏

وفيه‏:‏ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، بَيْنَا هُوَ مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُنَاسٌ مُقْفَلَه مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ بِرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطُونِى رِدَائِى، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاه‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن مسعود، لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم أُنَاسًا فِى الْغَنِمَةِ، وَأَعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ‏:‏ وَاللَّهِ لأخْبِرَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَمَنْ يَعْدِلُ، إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَتْ‏:‏ كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ‏.‏

وقال عروة، عن أَسْمَاءَ‏:‏ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِى النَّضِيرِ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا‏)‏، فَأُقِرُّهم حَتَّى أَجْلاهُمْ عُمَرُ فِى إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ آثار هذا الباب ترد قول الشافعى؛ فإنه زعم أن النبى عليهه السلام إنما كان يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من خمس الخمس؛ لأنه سهمه خاصة‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وهذه قسمة لم يعدل فيها الشافعى؛ لأنه لا يتوهم أحد أن خمس الخمس يكون مبلغه ما أعطى المؤلفة من تلك العطايا الكثيرة، فإن كان ذلك كله من خمس الخمس، فإن أربعة أخماس الخمس أضعاف ذلك كله‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وأعطى النبى المؤلفة قلوبهم من الخمس وليس للمؤلفة قلوبهم ذكر فى الخمس ولا فى الفيء، وإنما ذكروا فى الصدقات فدل إعطاؤهم من غنائم حنين، أن الخمس يقسمه الإمام على ما يراه، وليس على الأجزاء التى قال الشافعى، وأبو عبيدة، ولو كان كذلك ما جاز أن يعطى المؤلفة قلوبهم من ذلك شيئًا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وآثار هذا الباب أيضًا ترد مقالة قوم ذكرهم الطبرى، زعموا أن إعطاء النبى صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم كان من جملة الغنيمة لا من الخمس، وزعموا أنه كان له صلى الله عليه وسلم أن يمنع الغنيمة من شاء ممن حضر القتال ويعطيها من لم يحضر، وهو قول مردود بالآثار الثابتة، وبدلائل القرآن‏.‏

قال المهلب‏:‏ وكان حكيم ممن استؤلف بالمال؛ لأنه كان يحب المال‏.‏

وفيه‏:‏ رد السائل إذا ألحف بالموعظة الحسنة، لا بالانتهار الذى نهى الله عنه‏.‏

وفيه‏:‏ أن الحرص على المال والإفراط فى حبه وطلبه يوجب المحق له، وأن النفس الشريفة هى سخية به إن أعطته وسخية به إن أخذته، ولم تكن عليه حريصة، يبارك لها فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم كثير من معانى حديث حكيم فى كتاب الزكاة من التعفف عن المسألة‏.‏

وفيه‏:‏ ذم كثرة الأكل، وتقبيحه‏.‏

وفى حديث أنس من الفقه أن على الإمام أن يمتحن ما يكره مما يبلغه من الأخبار، ولا يدع الناس يخوضون من أمره فيما يؤزرون به، فربما أورث ذلك نفاقًا فى قلوبهم فيجب امتحان ما سمعه من ذلك، واختباره بنفسه حتى يتبين وجه ما أنكر عليه، ومعنى مراده؛ لتذهب نزغات الشيطان من نفوسهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم بالأنصار حين رضاهم بما لم يكونوا يرضون به من قبل من الأثرة عليهم لما بينه لهم‏.‏

وفيه‏:‏ أن الإمام إذا اختص قومًا بنفسه وجيرته، أن يعلم لهم حق الجوار على غيرهم من الناس‏.‏

وفيه‏:‏ شرف جيران الملك على سائر من بعد عن جيرته‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرجل العالم والإمام العادل، خير من المال الكثير‏.‏

وفيه‏:‏ استئلاف الناس بالعطاء الجزيل لما فى ذلك من المنفعة للمسلمين والدفاع عنهم‏.‏

وفيه‏:‏ أن الأنصار لا حق لهم فى الخلافة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عرفهم أنه سيؤثر عليهم، والمؤثر يجب أن يكون من غيرهم؛ ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله‏)‏ فعرفهم أن ذلك حالهم إلى انقضاء الزمان‏.‏

وفى حديث جبير استعمال حسن الأخلاق والحلم لجهل الناس والأعراب وقلة ردهم بالخيبة‏.‏

وفيه‏:‏ سنة الأمراء أن يسكنوا عن رد السائل، ويتركوه تحت الرجاء ولا يؤيسوه ويوحشوه‏.‏

وفيه‏:‏ مدح الرجل نفسه إذا ألحف عليه فى المسألة فى المال والعلم وغيره‏.‏

وفيه‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم مدح نفسه بالجود العظيم، ووصف نفسه بالشجاعة والبأس الذى بسببه كانت الأعراب تسأله، ووصف نفسه بالصدق فيما يعد به من العطايا‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من أخلف وعد الله جاز أن يسمى‏:‏ كاذبًا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان صادق الوعد‏}‏‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ فى حديث جبير دليل على أن الإمام بالخيار إن شاء قسم الغنائم بين أهلها قبل أن يرجع إلى بلاد الإسلام، وإن شاء أخر ذلك، على قدر فراغه وشغله إلى وقت خروجه، وعلى قدر ما يرى من الصلاح فيه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فى حديث الذى جبذ النبى معنى ما تقدم من صبر السلاطين والعلماء لجهال السؤال واستعمال الحلم لهم، والصبر على أذاهم فى المال والنفس‏.‏

وفى حديث ابن مسعود الأثرة فى القسمة نصا‏.‏

وفيه‏:‏ الإعراض عن الأذى إذا لم يعين قائلوه، والتأسى بما تقدم من الفضلاء فى الصبر والحلم‏.‏

وفى حديث أسماء‏:‏ عون المرأة للرجل فيما يمتهن فيه الرجل، وذلك من باب التطوع منها وليس بواجب عليها، وسيأتى فى كتاب النكاح ما يلزم المرأة من خدمة واختلاف العلماء فى ذلك عند ذكر هذا الحديث إن شاء الله‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏إن النبى صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضًا من بنى النضير‏)‏ فليست من جملة الخمس؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أجلى بنى النضير حين أرادوا الغدر به وقتله ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ كانت فيما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فخمس منها رسول الله فى نوائبه وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة، فلم يجر فيها خمس‏.‏

وأما خيبر فإن ابن شهاب قال‏:‏ بعضها كان عنوة، وبعضها كان صلحًا، وما كان عنوة فجرى فيه الخمس‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏(‏وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين‏)‏ فقد اختلفت الرواية فى ذلك، فروى ابن السكن عن الفريرى‏:‏ ‏(‏وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمسلمين‏)‏‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ بل الصواب لليهود، وهو الصحيح‏.‏

وكذلك روى البيهقى عن الفربرى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لما ظهر عليها‏)‏ أى‏:‏ لما ظهر عليها بفتح أكثرها ومعظمها قبل أن يسأله اليهود أن يصالحوه بأن ينزلوا ويعطوه الأرض، ويسلمهم فى أنفسهم فكانت لليهود، فلما صالحهم على أن يسلموا له الأرض، كانت الأرض لله ولرسوله، يريد هذه الأرض التى صالحه اليهود بها وخمس الأرض التى كان أخذها عنوة، وللمسلمين الأربعة الأخماس من العنوة، ولم يكن لليهود فيها شيء؛ لخروجهم عنها بالصلح، والدليل على ذلك أن عمر لما أخرجهم إنما أعطاهم قيمة الثمرة لا قيمة الأصول، فصح أنهم كانوا مساقين فيها بعد أن صولحوا على أنفسهم وبالله التوفيق‏.‏

باب مَا يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ

فيه‏:‏ ابْن مُغَفَّلٍ، قَالَ‏:‏ كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ كُنَّا نُصِيبُ فِى مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُ منه، وَلا نَرْفَعُهُ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ‏:‏ أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِىَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِى الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ، وَلاَ تَأْكُلُوْا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا‏)‏، قَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ فَقُلْنَا‏:‏ إِنَّمَا نَهَى النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، لأنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، قَالَ‏:‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَسَأَلْتُ ابْن جُبَيْرٍ، فَقَالَ‏:‏ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ‏.‏

جمهور العلماء متفقون على أنه لا بأس بأكل الطعام والعلف فى دار الحرب بغير إذن الإمام، ولا بأس بذبح الإبل والبقر والغنم قبل أن يقع فى المقاسم‏.‏

هذا قول مالك والكوفيين والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد‏.‏

قال مالك‏:‏ ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يقسم فيهم أضر ذلك بهم‏.‏

قال‏:‏ وإنما يأكلون ذلك على وجه المعروف والحاجة، ولا يدخر أحد منهم شيئًا يرجع به إلى أهله، وقد احتج الفقهاء فى هذا بحديث ابن مغفل فى قصة الجراب، وقالوا‏:‏ ألا ترى أن النبى لم ينكر عليه، وقد ورد فى بعض طرق حديث ابن مغفل قال‏:‏ ‏(‏فالتفت فإذا النبى صلى الله عليه وسلم يبتسم إلي‏)‏ وشذ الزهرى فى هذا الباب، فقال‏:‏ لا يجوز أخذ الطعام فى دار الحرب إلا بإذن الإمام‏.‏

وأظنه رأى الخلفاء والأمراء كانوا يأذنون لهم فى ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأن ما أذنوا فيه مرة علمت فيه الإباحة؛ لأنهم لا يأذنون فى استباحة غير المباح‏.‏

وقول ابن عمر‏:‏ ‏(‏كنا نصيب فى مغازينا العنب والعسل فنأكله ولا نرفعه‏)‏ هو كالإجماع من الصحابة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحديث ابن أبى أوفى حجة فى ذلك أيضًا، وأن العادة كانت عندهم فى المغازى انطلاق أيديهم على المطاعم والمستلحمات، ولولا ذلك ما تقدموا إلى شيء إلا بأمر الرسول‏.‏

وسيأتى ما للعلماء فى تحريم لحوم الحمر فى كتاب الذبائح إن شاء الله‏.‏

وكره جمهور العلماء أن يخرج شيئًا من الطعام إلى دار الإسلام إذا كانت له قيمة، وكان للناس فيه رغبة، وحكمةا فيه بحكم الغنيمة فإن أخرجه رده فى المقاسم إن أمكنه وإلا باعه وتصدق بثمنه‏.‏

قال مالك‏:‏ وإن كان يسيرًا أكله‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ ما أخرجه إلى دار الإسلام فهو له أيضًا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وليس لأحد أن ينال من أموال العدو شيئًا سوى الطعام للأكل والعنف للدواب، وكل مختلف فيه بعد ذلك من ثمن طعام أو فضلة طعام يقدم به إلى أهله أو جراب أو حبل أو غير ذلك مردود إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أدوا الخائط والمخيط‏)‏‏.‏

وإلى قوله‏:‏ ‏(‏شراك أو شراكان من نار‏)‏‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وقد حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبى يوسف، عن أبى إسحاق الشيبانى، عن محمد بن أبى المجالد، عن عبد الله بن أبى أوفى قال‏:‏ ‏(‏كنا مع رسول الله بخيبر يأتى أحدنا إلى الطعام من الغنيمة، فيأخذ منه حاجته‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وقد خالف هذا حديث آخر رواه ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبى مرزوق التجيبى، عن حنش بن عبد الله، عن رويفع بن ثابت، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال عام خيبر‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أنقصها ردها فى المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يليس ثوبًا من المغانم حتى إذا أخلقه رده فى المغانم‏)‏‏.‏

وذهب قوم منهم الأوزاعى إلى أنه لا بأس أن يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة فيقاتل به فى معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا، ولا ينتظر برده الفراغ من الحرب، فيعرضه للهلاك وانكساد الثمن فى طول مكثه فى دار الحرب‏.‏

واحتجوا بهذا الحديث، وخالفهم آخرون منهم أبو حنيفة، فقالوا‏:‏ لا بأس أن يأخذ السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام، فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب فيرده فى المغنم‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ ولحديث رسول الله معنى لا يفهمه إلا من أعانه الله عليه، ومعنى الحديث عندنا‏:‏ على من يفعل ذلك وهو عنه غنى يبقى بذلك دابته أو ثوبه أو يأخذه يريد به الخيانة، فأما رجل مسلم فى دار الحرب ليس له دابة، وليس مع المسلمين فضل يحملونه إلا دواب الغنيمة، ولا يقدر على المشى، فلا يحل للمسلمين تركه، ولا بأس أن يركب شاءوا أو كرهوا، وكذلك الحال فى الثياب والسلاح‏.‏

ألا ترى أن قومًا من المسلمين لو تكسرت سيوفهم أو ذهبت، ولهم غنى عن المسلمين أنه لا بأس أن يأخذوا سيوفًا من الغنيمة، فيقاتلوا بها ما داموا فى دار الحرب‏؟‏ أرأيت إن لم يحتاجوا إليها فى معمعة القتال، واحتاجوا إليها بعد ذلك بيومين أغار عليهم العدو يقومون فى وجوههم بغير سلاح أيستأسرون‏؟‏ هذا الرأى فيه توهين لمكيدة المسلمين، فكيف يحل هذا فى المعمعة ويحرم بعد ذلك‏؟‏ وحديث ابن أبى أوفى يبين أنه إذا كان الطعام لا بأس بأخذه وأكله واستهلاكه لحاجة المسلمين إليه، كذلك لا بأس بأخذ الدواب والثياب واستعمالها للحاجة إليها حتى يكون الذى أريد من حديث ابن أبى أوفى غير الذى أريد من حديث رويفع حتى لا تتضاد، وهذا قول أبى يوسف ومحمد وبه نأخذ، قاله الطحاوي‏.‏